تمهيد:
يثير موضوع ميراث المرأة في الإسلام جدلًا متكررًا، وتُطرح من خلاله دعاوى تُصور التشريع الإسلامي وكأنه جائر بحق المرأة، يستند إلى قاعدة جامدة مفادها: “للذكر مثل حظ الأنثيين”. وتُتخذ هذه القاعدة، المجتزأة من سياقها، ذريعة لاتهام الشريعة بالتمييز الجندري، دون اعتبار للمنظومة الكلية التي تحكم العلاقات والواجبات داخل الأسرة والمجتمع.
غير أن الدراسة الموضوعية المنصفة تكشف عن عدالة إلهية متكاملة، تستند إلى علم الله سبحانه بخلقه، وإلى رحمته التي وسعت كل شيء، يقول تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
أولًا: دعوى “نصف الرجل دائمًا”… مغالطة منهجية
الشائع في الخطاب الإعلامي أن المرأة في الإسلام ترث نصف الرجل مطلقًا، وهي دعوى لا تصمد أمام التحقيق الفقهي، إذ تبين من تتبع حالات الميراث في الشريعة أن:
• 10 حالات ترث فيها المرأة مثل الرجل تمامًا.
• 10 حالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
• 10 حالات ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال.
• 4 حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
وهذا يعني أن أغلب حالات الميراث في الإسلام تُنصف المرأة أو تُفضلها أو تجعلها شريكة للرجل في الميراث، وأن الحالة التي ينطبق عليها ظاهر “للذكر مثل حظ الأنثيين” ليست إلا استثناءً له حكمة دقيقة.
المصدر الفقهي: انظر القرافي، الفروق (ج4، ص239)، وابن قدامة، المغني (ج9، ص13-29)، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن (ج5، ص66-70).
ثانيًا: المساواة في النصيب لا تعني العدل في التكليف
العدالة الإلهية لا تُقاس بالمقادير المتساوية فحسب، بل تُقاس بما يترتب على كل إنسان من التكاليف والواجبات والوظائف الاجتماعية. وقد حمّل الإسلام الرجل أعباء مالية متعددة، منها:
• المهر.
• النفقة.
• الديات والكفارات.
ومن ثَمَّ، فإن زيادة نصيب الرجل في بعض الحالات ليس تمييزًا لكونه ذكرًا، بل تمكينٌ له للقيام بمسؤولياته التي كُلّف بها شرعًا، بخلاف المرأة التي لا تُلزم بشيء من ذلك، ولو كانت موسرة.
ثالثًا: تكريم المرأة في التشريع لا يقف عند حدود الإرث
شرّف الإسلام المرأة قبل أن تعرف المجتمعات الحديثة شيئًا عن “الحقوق النسوية”، ومن مظاهر تكريمها:
• ورّثها، بعد أن كانت في الجاهلية تُورث ولا ترث.
• احترم ذمتها المالية.
• كفل لها حق التعليم والعمل والتمكين.
بل إن التشريع الذي منحها الإرث، حرص على أن يكون نصيبها محفوظًا مضمونًا دون أن يقابله واجب إنفاق، بينما الرجل غالبًا ما ينفق ما يرثه.
رابعًا: هل نعيد النظر في التشريع أم في الخطاب الإعلامي؟
إن الخطاب المعاصر، المتأثر بالمدارس الغربية في تحليل قضايا الأسرة، ينطلق من مفهوم “المساواة المطلقة”، وهي ليست عدالة بالضرورة. فالمساواة التي تهمل الفروق الطبيعية والاجتماعية بين الجنسين تُفضي إلى ظلم أكبر، بينما الشريعة الإسلامية، في حكمتها، فرّقت حين اقتضى العدل التفريق، وساوت حين اقتضى الإنصاف التسوية.
وكما قال الإمام الشاطبي: “التكليف من الشارع جارٍ على مقتضى المصلحة، والمصلحة لا تكون مصلحة إلا إذا راعت الفطرة البشرية.” (الموافقات، ج1، ص53).
خامسًا: شهادة قانوني غربي اعتنق الإسلام بعد تأمله في نظام الميراث
من أبرز الشهادات الفكرية على عدالة نظام الميراث في الإسلام شهادة الدكتور روبرت ديكسون كرين، أحد كبار مستشاري الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، وأول من أسس الجمعية القانونية بجامعة هارفارد. اعتنق الإسلام بعد تأمله في دقة التشريعات الإسلامية، وعلى رأسها نظام الميراث.
كتب الدكتور كرين:
“الشريعة الإسلامية تقدم نظامًا متكاملًا للعدالة، لا يستند إلى المساواة الميكانيكية، بل إلى الحكمة الربانية في توزيع الحقوق تبعًا للوظائف والمسؤوليات الاجتماعية.”
المصدر: Robert D. Crane, The Grand Strategy of Justice, New Horizon Press, 1999.
خاتمة:
لم يكن الميراث في الإسلام آلية اقتصادية مجردة، بل كان تعبيرًا عن منظومة ربانية شاملة تنطلق من عدل الخالق، الذي خلق فسوى، وقدّر فهدى. ومن الحكمة أن نقرأ النصوص بوعي، لا بانفعال، وبميزان الإنصاف لا بعين الانتقاء.
فالشريعة التي قالت: ﴿للذَّكر مثل حظ الأنثيين﴾، هي ذاتها التي قالت: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، وهي التي نطقت باسم الرحيم، العليم، اللطيف، الخبير.
مراجع علمية:
1. ابن قدامة، المغني، دار الفكر، بيروت.
2. القرافي، الفروق، دار الكتب العلمية.
3. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن.
4. الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة.
5. Robert D. Crane, The Grand Strategy of Justice, New Horizon Press, 1999.