المقالات

الطائف… مدينة الورد، وعطر الأساطير، وموطن الحضارات

الطائف” مصيف الجزيرة العربية، الموشى بالغيوم الحبلى بماء السماء، والمكلل بجمال الطبيعة الأخاذة، والمحمّل بإرث من الأساطير التي تختزنها الذاكرة، والمنغرس في تضاريس التاريخ بجذور ضاربة، كأنها وشائج الزمن ذاته. هي المدينة التي لا تُقاس بحدود الجغرافيا، بل تُقاس بامتداداتها في وجدان الأمة، وعراقتها في مسيرة الحضارة، وتفرّدها في معجم الجمال.
وإذا كانت المدن تُحدّ باتجاهات، فإن “الطائف” تُحدّ بقيم: تاريخ وحضارة، فن وتراث، جمال وبهاء، سحر وغناء، فتنة وروعة. إنها المدينة التي تتجاوز الخارطة لتصبح رمزًا، وتتجاوز الوصف لتغدو ملهمة. فـ”الطائف” حيث تلتقي الطرق ولا تفترق، وتتوحد الأذواق ولا تختلف، هي الملتقى الذي تصطفيه القلوب قبل أن تدركه الأقدام.
ومن هذه الربوة العالية، ومن جنبات “الطائف”، بزغ فجر الحضارة وأشرقت شمس التاريخ، مشعّة من مرافئ الجمال ومرافئ الزمن.
الطائف” مدينة موغلة في القِدم، يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام، تؤكده النقوش والحفريات، وتشهد عليه الآثار الجاهلية والإسلامية التي لا تزال تقف شامخة، كأنها تصوغ حكاية المكان بلغة الحجر. فالنقوش الثمودية، والسدود القديمة، ليست مجرد شواهد أثرية، بل هي فصول من كتاب عريق، ترويه مدينة ولدت من رحم الزمن وارتوت من نبع المجد.
وما يميّز “الطائف” هو ذلك التنوّع الطبوغرافي المدهش، الذي أهدى لها تباينًا خلاقًا في البيئات الطبيعية؛ فهي مدينة تتكئ على أكثر من (400) قمة جبلية، تتفاوت في ارتفاعها وشموخها، وتتركز في جزئها الغربي والجنوبي، حيث تتربع على قمة جبل غزوان، بارتفاع يصل إلى 2500 متر عن سطح البحر، لتستمد من علوها هواءً عليلًا، ومن شموخها صفاءً ينعش الروح.
وتتزين أرضها بالغابات الكثيفة، والسهول الممتدة التي تتفتح بالأزهار البرية عقب المطر، فتغدو “الطائف” كأنها قصيدة طبيعة، مكتوبة بلون الزهر، وصوت النسيم، وعطر التراب. وهنا تتجلى الإثارة، حين يغمر الضباب تلالها، ويعانق أشجار العرعر الباسقة، التي تنثر بهجتها فوق السفوح كأنها لآلئ خضراء تهمس للجبل بأسرار الجمال.
وقد ارتقت “الطائف” اقتصاديًا وحضاريًا بموقعها الاستراتيجي، على طرق القوافل التي كانت تربط اليمن بكل من مكة والمدينة، فصارت صلة وصل بين الجنوب والوسط من جهة، وبين الغرب من جهة أخرى، مما منحها موقع القلب في جسد الجزيرة العربية، وأكسبها بعدًا إقليميًا جعلها حاضرة بالأمس، كما هي حاضرة اليوم.
وتزداد هذه الأهمية قُربًا من مكة المكرمة، إذ تُعد “الطائف” بوابتها الشرقية، المتربعة في قلب سراة الحجاز، وعلى أكتاف جبل عزوان، الذي يلامس السماء بارتفاعه البالغ ستة آلاف قدم. ومن هنا يتجلى سر المناخ المعتدل الذي تنعم به المدينة، وهو مناخ لا يمنح الراحة فحسب، بل يرتبط علميًا بعوامل التحضّر، وفق النظرية التي ترى في البرودة محفزًا للنمو الثقافي والمدني، وكأن الطائف قد استوفت شرط الحضارة بالفطرة.
وتقع “الطائف” في الجزء الغربي من المملكة العربية السعودية، وتُعد ثالث مدن الحجاز من حيث الأهمية، إذ تمثل 67% من مساحة إمارة مكة المكرمة، ونحو 2% من مساحة الوطن كله. وتتسع محافظة “الطائف” من الشرق إلى الغرب لمسافة 275 كيلومترًا، ومن الشمال إلى الجنوب نحو 405 كيلومترات، وتضم في حضنها أجزاء من جبال السروات جنوبًا، وهضبة نجد شمالًا وشرقًا، بينما يطل جرفها الغربي على سهل تهامة الساحلي الممتد نحو البحر الأحمر، والذي يقترب من حدودها حتى لا يبعد عنها أكثر من 140 كيلومترًا، وقد تقل هذه المسافة في جنوبها لتصل إلى 100 كيلومتر فقط.
وقد حبى الله “الطائف” بخواص طبيعية نادرة، من مناخ متوازن على مدار العام، وأودية متدفقة، وجبال شامخة، ومزارع غنّاء تغمرها الأشجار الباسقة، حتى استحقت أن تُسمى بستان مكة، لما اشتهرت به من زراعة وفيرة وخيرات متعددة.
وقد خلّدها ياقوت الحموي بقوله: “ثمارها كأنها من ثمار الروم، وأرضها كأنها قطعة من الشام”، وقد اكتسبت فواكهها شهرة فاقت حدود المكان، فأقيمت لها مهرجانات للرمان والعنب والخوخ والمشمش والتوت والعسل واللوزيات، وتُوّجت بمهرجان الورد الطائفي الذي صار رمزًا للمدينة، ومنحها اسمًا دائم الحضور: “مدينة الورد”.
وقد أبهرت “الطائف” عقول الرحالة، وألهبت خيال المؤرخين، وأثارت شغف الشعراء، فتغنوا بها وكتبوا عنها، وشهدوا بما فيها من ألق الطبيعة وعبق التاريخ، وتفرد الشخصية، ووضوح المعالم، واستقلال الملامح. فقد نمت على أرضها أولى ملامح الحضارة، وتداخلت فيها طبقات التاريخ بألوانه المختلفة، ممتزجةً بحضارات الأمم السابقة، لتشكل لوحة متكاملة من الإبداع الإنساني.
ولعل من أبرز تجليات روحها الثقافية، سوق عكاظ الشهير، الذي لم يكن مجرد سوق، بل كان ساحة أدبية، ومنبرًا للحكمة، ومهرجانًا للشعر، حيث كانت القبائل تتبارى في الفصاحة، وتتنافس في البراعة، وتوقد شرارة التميز، فأنجبت أعلامًا خلّدهم التاريخ، وسُطّرت أسماؤهم في سجلات المجد العربي.

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى