إنما اخترت لكم هذا العنوان ( [COLOR=blue]إنسانُ مكةَ [/COLOR]) لما في إضافة الإنسان إلى مكة من المزية والاختصاص على غيره من الناس ؛ ولأنه بهذه الإضافة يكتسب من الجلال والكمال الإنساني ما يجعله في قمة الأنسنة البشرية .
هذا الجلال والكمال الإنساني الذي يكسو إنسان مكة ، إنما اكتسبه من سكناه مكة ، ومجاورته للبيت العتيق ، إّذ إنّ لمكة مكانة عظيمة في نفوس الناس كلهم ، مسلمهم وكافرهم برّهم وفاجرهم على حدِّ سواء ، للأسبقية التأريخية للكعبة المشرفة المذكورة في قوله تعالى { إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين } آل عمران 96.
وإنسان مكة يسكن بقعةً أسّست على توحيد الله وإفراده بالعبادة والتقديس كما قال تعالى { وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والعاكفين والرّكّع السجود } البقرة26، وهذه الآية فيها تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من سكّانها لأنها أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، كما يقول ابن كثير رحمه الله ..
وإنسان مكة يجاور بيتاً مؤسّساً على التقوى والرضوان { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خيرٌ أمّن أسّس بنيانه على شفا جرفِ هارٍ فانهار به في نار جهنم ؟ والله لا يهدي القوم الظالمين } التوبة109، فأول من تنطبق عليه معاني هذه الآية هو إنسان مكة الذي أسس بنيان إنسانيته وحياته على قاعدةٍ قيميةٍ قويةٍ محكمةٍ فهو خير ممن أسسه على قاعدة ضعيفةٍ من الباطل .
وإنسان مكة يعيش على أرض طاهرةٍ ارتضاها الله عزّ وجل لإقامة بيته وولادة نبيه وإنزال وحيهِ واحتضان دينهِ فكانت كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين .
يقول ابن القيم عليه رحمة الله – وهو يعلّل هذا المعنى : ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها ، وهي البلد الحرام …. ومن خصائصها كونها قبلةً لأهل الأرض كلهم ، فليس على وجه الأرض قبلة غيرها …. ومن خصائصها أنها لا يجوز دخولها لغير أصحاب الحوائج المتكررة إلاّ بإحرام …ومن خواصّه [ البلد الحرام ] أنه يعاقب فيه على الهمّ بالسيئات ، وإن لم يفعلها … فالله كم لها من قتيل وسليبٍ وجريحٍ ، وكم أنفق في حبّها من الأموال والأرواح ، ورضي المحب بمفارقة فلذ الأكباد والأهل والأحباب ، والأوطان … وهذا كله سرّ إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله { وطهر بيتيَ } [الحج26]
وإنسان
مكة يعيش حياةً اجتماعية طيبة في حرمٍ آمنٍ ليس كأمن سائر البلدان ، بل لهذه البقعة أمن تكوينيٌ قدريٌ مضمونٌ مكفولٌ من ربّ العالمين للمكان وللساكن ؛ حتى إن الله تعالى امتنّ به على إنسان مكةَ وأهلها فقال { أولم نمكّن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كلّ شيء رزقاً من لدنّا! } القصص57، وقال تعالى { أولم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم }العنكبوت67 ، وقال جلّ شأنه { وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمنا ..}
إنّ استجابة الله عز وجل لدعوة إبراهيم عليه السلام { ربّ اجعل هذا بلداً آمناً } البقرة 126، و{ وربّ اجعل هذا البلدَ آمناً } إبراهيم35 تدلّ على ضمانٍ إلهيٍ لإنسان هذه البلد بالأمن الشامل والكامل ، وهذا ما يعزّز في إنسان مكة الحرص على تحقيق الأمن المطلوب منه كمسؤولية بشرية أوكلها الله إلى كلّ من سكن هذا الحرم ، ومن تتبّع التاريخ يعرف أن الحرم لم يتعرّض لعدوان خارجي أجنبيٍ على مدى الأزمان ، بل إن واقعة الفيل تقرأ للعظة والعبرة إلى يوم القيامة ، ولا تخفى على ذي لبٍّ .
والكمال الإنساني لإنسان مكة يتجلّى في عيشه في أمن وأمان وسلامةٍ وإسلامٍ وبركاتٍ من الطيبات ، فهو يعيش بين جبالها وشعابها مطعم من الجوع آمن من الخوف ، لذا أحبّها إنسانها الكامل وسيد الرّسل الكمّل عليهم الصلاة والسلام فقال : والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله ، فكان عليه الصلاة والسلام يبرُّ أهلها وساكنيها فقد قال لأهلها – وهم أعداؤه وقتئذٍ – : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، بل كان يرحمهم ويخشى عليهم من الافتتان حتى بعد دخولهم في دين الله أفواجاً ؛ إذ لم يُعِد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام رحمةً بهم ..
وقد جمع عليه السلام معاني الكمال الإنساني في خطبته في حجة الوداع التي حرّم فيها دم المسلم وماله والربا ، ودعا الرجال بالرفق والخيرية بالنساء ، والمساواة بين الناس والمحافظة على الأنساب ..
فهنيئاً لإنسان مكة هذا الكمال والجلال !!
مقال جميل ، بس ياليت يكتب اسم صاحب المقال .