الأمر الأول: أنّ تفسير النصوص الشرعية أمر متاح للجميع، ولا يتوقف على فهم وتفسير السلف لها، فتفسير النص الشرعي بالنسبة لهم حق مشاع، فالفرد غير ملزم بفهم السلف للنصوص الشرعية، وله الحق في أن يفسر النص الشرعي حسب ما يراه، ولا إنكار عليه حتى وإن خالف بفهمه وتفسيره ما عليه السلف، وشعارهم:( النص مقدس، والتأويل حر).
والأمر الثاني: عدم وجود حقيقة مطلقة، فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وعلى ذلك فالحق متعدد، فما تراه حقا يراه غيرك باطلا، وبما أن فهم النصوص متاح لكل فرد حسب ما يراه، فالحق لا يمكن حصره.
يقول الشيخ محمد المنجد ـ حفظه الله ـ في كتابه القيّم “بدعة إعادة فهم النص”:( ومن تأمل تاريخ البدع والانحرافات علم أنّ أكثر ضلال المنتسبين للإسلام لم يأت من جحد الوحي، وإنّما من تأويل معانيه على غير مراد الله ورسوله، وهذه طريقة كثير من أهل الأهواء، كلّما أعيتهم الحيل في ردّ النصوص لجؤوا إلى التأويل الذي حقيقته تحريفٌ وتلاعبٌ بالنصوص) [COLOR=blue]ط1 مجموعة زاد للنشر 1431هـ ص47[/COLOR]
ويقول:( الحق واحد لا يتعدد، والضلال ألوان وأنماط، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ولو لم يكن ثمّة حقيقة مطلقة لكان أمر الله باتباع الحق والتزامه عبثا لا معنى له، ولو صح هذا فما معنى قوله تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[COLOR=blue]الأنعام: 153 [/COLOR]أين هذا الصراط المستقيم الذي يأمرنا الله باتباعه إذا كان لا أحد يملك الحقيقة، وأين هي تلك السبل الضالة التي نهانا عن اتباعها إذا كانت الحقيقة نسبية؟!
يقول ابن تيمية “وهذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة، لأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يُوجب وإن شاء أن يُحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفر وزندقة”) [COLOR=blue]ص77-78[/COLOR] ومن تابع برنامج البيان التالي على قناة دليل للإعلامي عبدالعزيز قاسم ـ وفقه الله ـ يوم الجمعة الموافق 21/8/1432هـ في حلقة ” التنويريون: انهزاميون أم تجديديون؟” يلاحظ استشهاد الضيف عبدالله حميد الدين ـ وهو ممن يدعي التنوير ـ لهذه الكلمة والإصرار على أنها منهج وقاعدة لدى التنويريون.
ولقد استوقفتني هذه الكلمة، ولمست من قائلها محاولة التلبيس على المتابع والمشاهد كي يثير الشكوك، وهو أسلوب لدس السم بالعسل، فما قاله من أن الخلاف بين التنويريين والسلفيين هو خلاف بين رجال ورجال فيه خلط للأوراق، وحيدة عن أصل الخلاف، قال عبدالله حميدالدين بالنص:( التنويري يقول: أنا تفسيري للكتاب والسنة يقتضي كذا وكذا، أنت تقول تفسيري للكتاب والسنة يقتضي كذا وكذا …
الصراع هو حقيقة ليس على الكتاب والسنة وليس على الإسلام، الصراع بين رجال ورجال، تفسير وتفسير، ولكن الجميع يعني يعود للكتاب والسنة …
لكن الخلاف في ما هي الشريعة وما هو الإسلام، ولا يحق لأحد اليوم أن يأتي أن يقول الشريعة هي ما أراها أنا، وهذه المشكلة، حقيقة الخلاف أنا وأنت، وليس الإسلام أو العلمانية …
الموضوع في أصله خلاف بين رجال ورجال، وليس خلاف بين دين ولا ديني).
إن ما قاله عبدالله حميد الدين ليس بالأمر الجديد فقد سبقه أسلافه من أمثال: محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد شحرور ومن سلك مسلكهم الضال في تحريف النصوص الشرعية، بحجة إعمال العقل وتقديمه على كل شيء، وبحجة التجديد في الفكر العربي والإسلامي، وبحجة إعادة قراءة النص الشرعي، وبحجة أنهم رجال لهم تفسيرهم كما أن السلف رجال ولهم تفسيرهم.
ولقد انتبه لهذه الكلمة وخطورتها الشيخ السعيدي ـ حفظه الله ـ فعلق عليها وبين بطلانها، وأنها الطريق لهدم الدين، فقال:( الآن الأخ الكريم يفسر الدين على أنه مسألة لا يمكن أن تفهم، بما أن الدين كل واحد له فهمه للدين، إذا لا دين ). ثم بين حفظه الله أن مسألة تفسير النص الشرعي ليس حقا مشاعا لكل من هب ودب فقال:( من لديه الآلة هو الذي لديه الحق بالتفسير، ولذلك السلف عندما كانت لديهم الآلة التي يفسرون بها النص كانت اختلافاتهم ليست كبيرة جدا، اختلافاتهم بالفروع ).
والاهم من ذلك ما نبه إليه الدكتور: محمد النجيمي ـ حفظه الله ـ في مداخلته التي أُلجم بها الضيف عبدالله حميدالدين ولم يعلق عليها، حيث نبه الدكتور النجيمي على نقطة مهمة وخطيرة تتعلق بالقاعدة التي ينطلق منها بعض التنويريين وهي “العقيدة” فذكر الشيخ: أن انطلاق فكر عبدالله حميدالدين نابع من عقيدته، لذا فهو لا يرى أن الحق واحد، ويسعى لفصل الدين عن الحياة.
وممّا يؤيد كلام الشيخ النجيمي: أن عبدالله حميدالدين يتكلم من منطلقات عقدية الحوار الذي نشرته مجلة العصر الالكترونية لعبدالله حميد الدين عن حرب اليمن، والتي حاول التقليل من خطر الروافض والحوثيين بالمنطقة، وذلك لانتمائه للمذهب الزيدي، والتلبيس على القارئ بأن إيران لا تستطيع عمل شيء وليس لها أطماع بالمنطقة.
وكذلك ما قاله في مقاله “الاختلاط … ونهاية الدنيا!” بصحيفة الحياة يوم السبت 11/6/1432هـ:( نحتاج من الدولة موقفاً صارماً، نحتاج من يضمن لنا جميعاً الحق في أي رأي والحق في العيش وفق أي نمط) فهو يطالب بفتح باب الحريات على مصراعيه، كي يأخذ راحته في بث أفكاره! لذا هو يطلب من الدولة أن تمنحه الحرية، وتوفر له الحماية كي يظهر عقيدته ويبدي رأيه المخالف لأهل السنة، وبأن يعيش وفق أي نمط يوافق هواه! فهو يصرح بأن حقيقة الخلاف أنا وأنت، وليس الإسلام أو العلمانية! فالعلمانية بالنسبة له كالإسلام ليس فيها خلاف، لأن الخلاف في فهم الرجال فقط!.
[COLOR=blue]وهنا تكمن المشكلة، فهل عبدالله حميدالدين كان يمثل التيار السلفي التنويري؟ أم أنه يمثل التنوير بتيار وعقيدة تخالف منهج السلف؟ [/COLOR]إن صلب المشكلة ليس على القضايا المختلف فيها، ولكن في محاولة من يدعي التنوير لنقد الثوابت والقيم، وفي ردهم للقواعد والأصول التي بني عليها الدين، والتي يتمّ من خلالها استنباط الأحكام الشرعية، وبمعنى أدق سعيهم لتهميش الدين وإبعاده عن الحياة الاجتماعية بأساليب ملتوية، وفتح المجال لتفسير النصوص الشرعية حسب أهوائهم وأرائهم، وإن قالوا أن الأصل هو الكتاب والسنة، فهذا من باب ذر الرماد بالعيون، والتلبيس على المجتمع، فعباراتهم الشرعية هي بمثابة جسر يعبرون عليه لتنفيذ مخططاتهم، وتمرير أفكارهم، لا سيما من كان دافعه لذلك عقيدته المخالفة لأهل السنة، أو من المفتونين بالغرب من أبناء أهل السنة، وخذ مثالا آخر على الانهزامية والاغترار بالتنوير الأوربي لدى بعض كتاب الصحف من أهل السنة.
يقول الكاتب محمد المحمود بمقاله ” التغيير بالتنوير .. من تفكيك الأوهام إلى الوعي بالذات” بصحيفة الرياض ليوم الخميس 27/8/1432هـ 🙁 لا يمكن أن يكون التغيير الإيجابي، التغيير الحقيقي، التغيير نحو الأفضل، إلا بالتنوير الأوروبي ذي النفس الليبرالي، التنوير الأوروبي الذي أثبت الواقع، وعلى مدى قرنين كاملين من التجريب والإنجاز، بل ومن مراجعة نقدية مستمرة لهذا الإنجاز، أنه أنتج للعالم أفضل حضارة عرفها الإنسان على امتداد تاريخه المعروف).
قمة الانهزامية تتجلى في فكر الكاتب ومن يحذو حذوه، فالتنوير الأوربي ذي النفس الليبرالي أفضل حضارة عرفها الإنسان!! ألهذه الدرجة بلغ بالكاتب تمجيد الحضارة الغربية والانفتان بها؟ وتجاهل الحضارة الإسلامية، وما قدمته للبشرية من قيم وأخلاق؟ هل يعقل أن هذا الكاتب غاب عنه أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو من أنقذ البشرية بمنهجه الرباني؟ وهو من أخرج الناس من الظلمات إلى النور بالوحي القرآني؟ وهو من أسس للعالم المفهوم الحقيقي للحضارة؟ فإذا كان الغرب قد اعترف بفضل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على البشرية، يأتي هذا الكاتب ويزعم بأن التنوير الأوربي أفضل حضارة عرفها الإنسان، قال تعالى:( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
إننا أمام خليط من الأفراد الذين يدّعون التنوير في مجتمعنا، ما بين أصحاب أهواء وشهوات، وأصحاب عقائد مخالفة لأهل السنة يحاولون نشرها عن طريق التنوير، قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ:( لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).[/ALIGN] [ALIGN=LEFT]malqwehes@gmail.com[/ALIGN]