عشية اندلاع الثورة الليبية كانت إذاعة الثوار من مدينة البيضاء تبث أغنية وطنية جميلة من تأليف الشاعر سالم التوسكي جاء في مطلعها:”اكيده خيالك ما رسم شكل النهاية.. يلي تظن الفخر في عدد الضحايا”..وبين يوم سقوط نظام القذافي ويوم نهاية حياته الذي لم يكن في خياله أبداً، مرت أكثر من ثمانية أشهر،كتب خلالها العقيد آخر فصول جماهيريته العظمى،بأنهار من الدماء الزكية والدموع الغزيرة،وليلة سقوط العقيد،كانت في بداية ثورة الشعب الليبي،عندما شهدت مدينة بنغازي اعتصام أهالي ضحايا مجزرة سجن بو سليم،بعد اعتقال المحامي الشاب فتحي تربل منسق جمعية عائلات الضحايا يوم الأربعاء الموافق16 شباط(فبراير)2011 قبل يوم واحد من الموعد المحدد لإعلان الثورة،وفي الليلة ذاتها شهدت مدينة البيضاء انطلاق تظاهرة شبابية،قرب تقاطع(الطلحي) رفع خلالها المتظاهرون،لأول مرة، شعار(الشعب يريد إسقاط النظام)،فقامت قوات الأمن الداخلي بإطلاق النار عليهم،وقتلت ستة أشخاص وجرحت العشرات،وكانت خطة القذافي المرسومة مسبقا تتمثل في استخدام أقصى قوة نارية لإبادة المتظاهرين في أماكنهم،لكي لا يتكرر السيناريو التونسي والمصري،في ليبيا،حسب اعتقاده.
في يوم الخميس 17 فبراير،بدأت الثورة فعليا، حيث وقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن في بنغازي والبيضاء ودرنة،وكان الشباب يواجهون الرصاص بصدورهم العارية،أو برمي الحجارة أو رفع العصي والخناجر ضد الكتائب الأمنية،التي كانت تقاتل بأسلحة فتاكة ومعنويات منهارة،فرجحت كفة الثوار، وتم تحطيم صور الزعيم وحرق مقرات الأمن ومراكز الشرطة،واستولى المتظاهرون على كميات هائلة من السلاح والعتاد،وانطلقت في صبيحة الجمعة،شعارات عبر سماعات المساجد في البيضاء”لا إله إلا الله، القذافي عدو الله”!!
عندما سمعت هذا الهتاف،بصوت زميلي الدكتور الشيخ إدريس الفضيل،ينطلق من جامع عثمان(رضي الله عنه) القريب من سكني،أدركت أن القذافي قد انتهى،وبدأت مرحلة تاريخية جديدة في ليبيا،وفي ظهيرة تلك الجمعة الشتائية ألقى الشيخ الشاب صلاح سالم خطبة حماسية، في جامع بلال، وسط المدينة، تؤكد سقوط نظام القذافي، فخرج الناس بعد الصلاة، وهم مذهولين من سرعة انهيار النظام البوليسي الرهيب،وغياب أنصاره من أعضاء اللجان الثورية،وتواريهم عن الأنظار!
تلك كانت أولى المفاجآت، أما الثانية فهي إن مدينة البيضاء، كان متوقعاً ان تكون آخر المدن الثائرة،بسبب وجود أغلبية من أقارب صفية زوجة القذافي،فأصبحت أول مدينة تشتعل فيها نيران الثورة،إلى جانب بنغازي المعروفة بتمردها الدائم!
أما المفاجأة الثالثة، فكانت ظهور سيف الإسلام، في خطاب التهديد والوعيد،وهو شاب مغرور لا يحمل أية صفة رسمية سوى كونه نجل الزعيم، وكان مهمشاً من قبل والده،في السنوات الأخيرة رغم الإشاعات المتكررة حول نوايا توريثه الحكم، وجاء خطابه، في تلك اللحظات المشحونة، استفزازياً،فزاد من نقمة الليبيين، وكان الناس ينتظرون رد فعل الأب على الأحداث المتسارعة في بلاده،وقد مرت ثلاثة أيام دون أن يشير الإعلام الحكومي إلى التظاهرات والمواجهات المسلحة،في المنطقة الشرقية،ثم ظهر القذافي أخيراً،ليلة العشرين من فبراير،في ذلك الخطاب الكارثي، الذي لم يترك أية فرصة للحوار والعقل والحكمة،في مواجهة الغليان الشعبي المتصاعد في بلاده الواقعة بين نارين!
كنت مثل الكثيرين،حتى لحظة خطاب(زنقة زنقة)،أدعو الله تعالى أن يتوجه القذافي إلى شعبه بخطاب تصالحي عقلاني،وأن يعدهم بإصلاحات سياسية واقتصادية سريعة من أجل مستقبل أفضل،وان يستفيد من دروس التاريخ الكثيرة،وبخاصة الدرس القريب جداً، فيتخذ العبرة من ثورتي تونس ومصر،لكنه ذهب في الاتجاه الخاطيء تماماً، عندما توهم أن إعلان الحرب على شعبه، سوف ينجيه من السقوط، وتلك كانت لحظة مقتله الحقيقية!
شعر الجميع بعد خطاب العقيد، بالصدمة من هول التهديدات والألفاظ غير اللائقة،التي أطلقها بطريقة هستيرية،وحسم المترددون موقفهم،فانحازوا للثورة، فمن طبيعة البشر، عندما يشعرون بالرعب والتهديد والفناء،ظهور روح التضامن وبروز الرغبة في المقاومة والدفاع عن النفس، وقد جعل القذافي أصدقاءه، قبل أعدائه، يشعرون بضخامة الكارثة المدلهمة، ورغم صعوبة الاختيار،وخطورة الموقف،فقد رأيت الكثير من الأساتذة والمثقفين الذين كانوا محسوبين من أنصار القذافي ينخرطون مع عامة الناس في الشوارع، ويرفعون علم الاستقلال الليبي، ويهتفون بسقوط الزعيم، ومن بينهم من كان يتفاخر،قبل أيام قليلة بأنه من أقرباء القذافي،وشهدت المناطق الشرقية المحررة، في تلك الأيام مشاهد رائعة،كشفت عن معدن الشعب الليبي وأخلاقه العربية الإسلامية الأصيلة،فلم تسجل أية حوادث سلب ونهب،للممتلكات الشخصية والعامة،ولم يتعرض أزلام النظام السابق للانتقام أو الثأر،ولم يعتد أحد على العرب والأجانب الكثيرين،وشهدت الأسواق وفرة في المواد الغذائية،وانخفضت أسعار الخبز أو تم توزيعه مجاناً أحياناً،وسارع أغلب الشباب إلى التطوع للقتال، وكان هناك شعور بالتفاؤل يطفح على وجوه الجميع،وهذا ما يمكن أن نسميه(روح الثورة) الشعبية الحقيقية، وليست ثورات العسكر وانقلاباتهم المشؤومة!
[ALIGN=CENTER][COLOR=crimson]زحف الكتائب![/COLOR][/ALIGN]مرت ثلاثة أسابيع على بدء الثورة،كان نظام القذافي يعيش خلالها في حالة ارتباك،ثم راح يجمع بقايا كتائبه استعداداً لهجوم مقابل ساحق على المنطقة الشرقية، الممتدة من بنغازي حتى الحدود المصرية،التي تحررت في الأيام الثلاثة الأولى،وأصبحت تحت سيطرة الثوار،ودارت خلال تلك الأيام معركة فاصلة في مطار الابرق، الواقع بين البيضاء ودرنة،حيث حاول القذافي إنزال مجموعات من قوات المرتزقة القادمين من طرابلس، لكنهم قُتلوا واُسروا قرب سياج المطار، من قبل أبناء القبائل القريبة.
في الأسبوع الرابع زحفت كتائب القذافي من سرت، نحو الشرق،وسط أنباء عن اندلاع الثورة، في مصراته، المدينة الصناعية والتجارية، القريبة من العاصمة،ثم انضمت للثورة مدن الجبل الغربي المجاورة لتونس،وتلك التطورات فرضت على كتائب العقيد القتال في ثلاث جبهات متباعدة، وفي الوقت نفسه شهدت الساحة السياسية اتصالات وتحركات سريعة، فأعلنت الجامعة العربية تجميد عضوية نظام القذافي،في سابقة تاريخية عربية، وأدانت بشدة حرب العقيد ضد شعبه،وأعطت الدول العربية الضوء الأخضر لتدخل المجتمع الدولي لإنقاذ الشعب الليبي، فصدر قرار مجلس الأمن رقم1973،وبدأ حلف الناتو تحريك طائراته وأساطيله لفرض حظر جوي فوق ليبيا، ثم تدمير ارتال الدبابات والراجمات المتوجهة إلى بنغازي، قبل لحظات من اجتياح المدينة وتدميرها.
لم تكن حسابات القذافي وقراراته مبنية على قراءة صحيحة للواقع الليبي والعربي والدولي،فأراد تكرار تجربة صدام حسين في سحق الانتفاضة الشعبية عام1991،وسط صمت المجتمع الدولي حينذاك،لكن عصر الفضائيات والانترنيت يختلف تماما عن تلك المرحلة،فقد كانت الصور تملأ الشاشات عن الانتفاضة الليبية التي أرادها القذافي حرباً شاملة،وراح الكثير من الشباب غير المدربين يقومون بتصوير أحداث الثورة بهواتفهم النقالة وكاميراتهم الشخصية،ثم يعبرون الحدود إلى تونس أو مصر، لكي يوصلوا الأفلام للقنوات الفضائية، فيشاهد العالم مذبحة الشعب الليبي، وقد شعر أصدقاء العقيد بالإحراج من فضاعة تلك الصور،فتخلوا عن مناصرته،وفشل رهان القذافي على بعض الأطراف الدولية، في حين كان أعدائه الغربيين ينتظرون هذه الفرصة الثمينة،فجاء رد الفعل بنفس مستوى الفعل،إن لم يكن أشد، وتحولت ليبيا إلى ساحة صراع وتنافس دولي،تحت غطاء حماية الشعب من زعيمه الجماهيري!
[ALIGN=CENTER][COLOR=crimson]ملحمة مصراته[/COLOR][/ALIGN] عندما عجزت كتائب القذافي عن تدمير بنغازي،بسبب صمود الثوار، في ظل الغطاء الجوي لطائرات الناتو،سعى العقيد إلى صد تقدم الثوار عند منطقة راس لانوف النفطية، وعمل على تركيز الهجوم على مصراته القريبة من طرابلس،وفرض عليها حصارا بريا وبحريا لأكثر من أربعة أشهر، قاوم خلالها المصراتيون ببسالة وبطولة لا مثيل لها،رغم تدمير مدينتهم بالصواريخ والراجمات،لكن إرادة الصمود والمقاومة جعلت هذه المدينة الثرية الجميلة تصبح قلعة الثورة الليبية،وكان القذافي يدرك خطورة تحرير مصراته،الواقعة بين طرابلس وسرت،وهي المدينة التي جعلت الثورة لا شرقية ولا غربية،بل ليبية شاملة،لذلك كان انتقامه وحشياً ورهيباً،لكن قواته بدأت تتراجع أمام شجاعة الثوار،والدعم الجوي من قبل حلف الناتو،وعندما خسرت الكتائب تلك المعركة، بدأت الهزيمة الفعلية للقذافي، وأصبحت طرابلس المحاصرة،من جهتي الشرق والغرب، على موعد مع فجر الثورة القادم،وكان سقوط باب العزيزية، بداية النهاية لنظام القذافي.
[ALIGN=CENTER][COLOR=crimson]لماذا سرت؟![/COLOR][/ALIGN]قد يتساءل الكثيرون لماذا لجأ القذافي، بعد هروبه من طرابلس إلى مدينة سرت،الواقعة في منتصف الساحل الليبي،وهي مسقط رأس القذافي،يوم ولادته ويوم وفاته،وقد كان الرجل وفياً وسخيّاً مع هذه المدينة،فتحولت في عقود حكمه الأربعة من قرية مهملة صغيرة إلى مدينة عصرية،شيدت فيها أفخم القاعات والفنادق والمقرات الحكومية،وقد عقدت في سرت القمة العربية الأخيرة التي ترأسها القذافي،منتصف العام الماضي،في مجمع قاعات(واغا دوغو) وسط مشاهد البذخ المفرط،وكان القذافي قد اقترح في خطاب على منبر الأمم المتحدة عام2009 نقل مقر المنظمة الدولية من نيويورك إلى سرت الآمنة، ومن يزور هذه المدينة،قبيل الثورة، لا بد أن يشعر أن القذافي قد جعل منها مقره المحصن لإدارة حكمه والدفاع عن نظامه، وحسب حساب يومه الأخير فيها،فهي مدينة مغلقة مثل المعسكر، لا يمكن الدخول إليها إلا بموافقة رسمية،ولا يسكن فيها سوى أبناء قبيلة القذاذفة،يحدها البحر من الشمال والصحراء من الجنوب،وتخضع لحراسة أمنية مشددة، وبخاصة عند البوابات المحيطة بها،وتوجد فيها كتيبة أمنية ضخمة،ومطار مدني وقاعدة جوية عسكرية،وترسو عند سواحلها فرقاطات وزوارق حربية،وهناك الكثير من المخابيء الحصينة تحت الأرض والبنايات شبه الفارغة،تحمل لافتات تشير إلى كونها وزارات(لجان شعبية)،لا يوجد فيها وزراء ولا موظفين،بانتظار أن يعلن الزعيم، ذات يوم،نقل العاصمة من طرابلس إلى سرت، ولكن ذلك اليوم لم يأت، ولن يأت!
خلاصة القول أن القذافي،كان طوال أربعة عقود يمثل شخصية مثيرة للجدل،عبّر عن مواقفه المتغيرة بشجاعة ووضوح،وحاول تحقيق أحلامه ونظرياته، في ظل ظروف معقدة وتحديات كبيرة،نجح في تجاوز الكثير من الأزمات،لكنه فقد السيطرة على تفكيره وتصرفاته عند اندلاع شرارة الثورة،واختار أسوأ الطرق وأكثرها خطورة،عندما أراد إبادة شعبه من أجل الاحتفاظ بكرسي السلطة،فدفع ثمن ذلك الاختيار، مثل سابقيه من الحكام الطغاة..وتلك قصة عجيبة لحياة صاخبة وعبرة لمن يعتبر!!