اتصل بي أحد هواة الشعر عشية زيارة خادم الحرمين -حفظه الله -للشرقية ، فقال لي : لعلك استمعت لقصيدة “سكنانا”، فقلت بغرابة : وما “سكنانا”؟ فقال :انتظر ، ثم أرسل لي مقطعًا فيه شاعر صغير السن يلقي شعرًا أمام جمع غفير ، فقال لي : ما رأيك في المقطع ؟ فأبديت له رأيًا لم يرُقْ له ، فقال : كأنك لم تدرس الأدب ، ولم تعلم طرق التأويل وعلم العلامة والسيميائية ، فقلت له : كلا ، ولكن عليك أن تقنعني كي أستمر معك في النقاش ، فقال : حسنًا ، شغلت القصيدة التي ألقاها “حيدر العبدالله” أمام الملك حيّزًا كان لاينبغي أن تشغله ، وما ذاك إلّا لمعرفة مغزاها عند من يقوم بتأويلها ، ومعرفة المغزى الدلالي من ورائها ، ويفك شفرة رمزيتها ، فقلت له : كلامك جميل ، فاسترسل في كلامه قائلًا : فالظاهرة الأدبية تُدرس بعمق ، ينضاف إلى ذلك تعدد التأويل ، والشاعر الفذ هو من يحبّر نصًا بديعًا ويترك الجمع يختصمون فيه ، يقول المتنبي :
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
لا كما سمعنا ورأينا وحكمنا وحكم غيرنا من ذوي العقول من الرجال وربات الحجال ، عند سماعهم لنص “حيدر” ، فقلت له : ألهذه الدرجة ضجت الدنيا ؟ فقال : وليعلمِ الجمع أن الشعر يختلف من شخص إلى أخر ، ومن بيئة إلى أخرى ، قوة وضعفًا ، كما أن الإلقاء جزءٌ لا يتجزأ من النص ، سواءً أكانت القصيدة فصيحة أم شعبية ، فذلك النص أُنتُقِدَ من العامة قبل الخاصة ، ومن الطبقة العادية قبل النخبة ، إلقاءً ومعنىً ، مع التحفظ لمن طبّل له لمآرب في نفسه وجني أرباح وهمية . فقلت له : أبهذه السرعة انتشر ؟ فقال : وهذه سقطة أخرى يا دكتور ، فنحن في عصر اللمسة ، ولم يمهلني لأكمل ، فأكمل قائلًا : فدراسة البنية للنص والنظام العام للعلاقات ليس وليد اللحظة ؛ بل خاض غماره علماء معتبرون ، فالعالم “دوسوسير”رائد اللسانيات الحديثة يقول : “اللغة نظام من العلامات التي تعبّر عن الأفكار”، ولأن المنهج النقدي قائم على الإحاطة بالمادة التجريبية “النص الأدبي” كاللغة ، والصوت ، واللون ، والشكل ، فإنه حريّ بأن يصل إلى عمقه ومعناه ، فالمنهج السيميائي يحلل النص الأدبي ، وينظر إلى ترابطه ، وكذلك العنصر الجمالي والفني ، وأخيرًا العنصر النفعي . إلى هنا كلامك جميل ، فقال لي : إذًا عليك الاستماع للتحليل السيميائي الإشاري ، فارتعدت فرائصي وخارت قواي ، فقلتُ : هاتِ ما عندكَ. فقال: اكتب النص أمامك أو قم بطباعته كي ننجز سريعًا ، فقلت : على الرحب والسعة ، فقال: تأمل مطلع النص ، حيث الشاعر يقول :
وطن دون حوضه نتفانا
وعن العيش فيه لا نتوانا
رب حي عليه صار شهيدًا
في هواه…ويومه ما حانا
فقلتُ له : مطلع حسن ، فقال :
وهنا تكمن التعمية الإشارية التي بدأت بتنكير المطلع “وطن” ، برغم المعرفة المسبقة بمعرفة الوطن وتجذره في قلوب أبنائه ، ثم يُشرّع لنفسه مدافعًا عن حياض الوطن النكرة المبهم الذي يتفانا من أجله ، فما الوطن وأين حدوده ؟ أما الشطر الثاني فهو تحدٍ صارخ وكأنه يقول : سنعيش في هذا الوطن بطريقتنا وتشريعاتنا شاء من شاء وأبى من أبى . فقلت له : لعل في حكمك ظلمًا ، وأنت تحمّل النصوص من الاسقاطات مالا تحتمل ، فلم يعرني بالًا ، وأكمل تحليله ، ويقول :
ربّ حيّ عليه صار شهيدًا
في هواه ويومه ما حانا
استحضار الإرث الوهمي قابع في ثنايا البيت الآنف ، فهناك من يستحضر طقوسه الدينية في كل مناسبة ، فأيامهم أحزان ولطم ، ولذلك لغة الوعيد ولون الدم والتوشح بالسواد حاضرة في نصوصهم ، كما هو الحال في حياتهم جمعاء ،كما أن ربّ تفتح أمام المتلقي آفاق التجلي والتأويل ، فالحي شهيد ولو لم يحنْ أجله ، ثم يكرر مفردة “شهيد ” والمقام ترحيبي ابتهاجي بخادم الحرمين الشريفين ، وليس يوم عزاء ولطم، واستحضار الماضي ، فالثلاثة الأبيات الأولى تفوح منها روائح الطائفية والسواد والدم التي تكرّس مظلوميتهم كما يزعمون . ويقول :
قد أتاك الخليج يقطر شوقًا
فحنانًا على الخليج حنانا
برغم حالة الشحن النفسي في البيت ، إلّا أن التأويل لا يخفى على ذي لب ، فالتوظيف كان مكشوفًا، فهو يوصي الملك بالتحنن على الخليج الذي يقطر شوقًا إليه !!!!
وكما هو معلوم أن رويبضات الخليج على الضفة الأخرى تعج صدورهم وتفور حقدًا على العرب ،
كما جاءت كلمة “الخليج” مرتين والحنان كذلك ، وما ذلك إلّا لاعتبار الخليج من أملاكهم الخاصة وفق خرائطهم السرابية ، وكلمتا “أتاك ويقطر”تحمل من الدلائل الإشارية العدائية ما يشبه نعيق المعممين . فقلت له : ربما لن أكمل حديثي معك إنْ أنت أمعنتَ في تحليل وهمي ، فقال :استمع لهذه ،
يا أبانا وحسبنا حين تحصى
أمم اليتم….. أن تكون أبانا
وهنا تكمن قمة المراوغة والتقية عند النداء بـ”يا أبانا”، وهي لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح ، كما أن اليتم متجذّر في قاموسهم التليد الغابر .
خيمة في الهجير كنت وفي البرد
وفي جــوفها تنــام …..قــرانا
الخيمة في طقوس البعض لها دلالات خطيرة ، فهم ينسبون لجيل الصحابة-رضوان الله عليهم – والتابعين مسألة السبي لبيت النبوة ، فرمزية الخيمة في جوفها تنام القرى ، أي أن كل ما يخطر ببالكم يكمن داخل هذه الخيمة من ظلم وسفك للدماء ، فقاطعته : ياهذا لو استمريتَ في تحليلك للنص الذي لا يتجاوز الثلاثين بيتًا لأسهرتني وقرّحت جفوني ، فأنت تستحضر التاريخ بأزماته وأحداثه لاسقاطها على نصّ ربما يكون بريئًا براءة صاحبه ، فقال : ليتني لم أعرفك ولم أستشرك ، فقد ضقتُ بك ذرعًا وسأختم قولي فلك أن تقيس على ذلك بقية أبيات النص كاملًا ، فكل بيت ينبض برمزية مأتم أو يتوشح بلبس سواد أو يصارع أملًا غائبًا .
وفي الختام يقول : بأن الأحساء والشرقية عمومًا تزخر بالشعراء الأفذاذ ، ولكن الاختيار جانب التوفيق ، جعل من ذلك الحكم على النص بمحدودية القدرة ، وعدمية التجاوز ، والوقوف عاثرًا أمام متلقٍ عنيد ، فهذا النص وطريقة إلقائه لا تتناسب وحجم الضيف الكبير الذي حلّ في داره كقائد للأمتين العربية والإسلامية ، ولذلك لا ندري لماذا شرعت الأقلام في الانتقاص من الأصوات التي انتقدت الأداء ، ولم يتمهلوا لمعرفة المزيد ، وقديمًا قالوا : “المعنى في بطن الشاعر”. فقلت : ياهذا ، لعلك في منهجك تجنيت على الشعر والتأويل ، فقال: كلام البشر لنا الحق في تأويله ، وهذا مادرسناه في السربون ، لا كما تعلمتموه في دراساتكم ، فقلت: لعلك حكمتَ على النص من إلقائه ، فقال : هناك شعراء لم يحالفهم الحظ في الصوت ، ولكنهم يأسرونك بجودة كلامهم ، فأقفل كل باب لتلمس العذر لصاحبنا “حيدر”،وقبل انهاء المحادثة ، قال لي : أين تسكن يا دكتور ، فقلت : في منزلي بشارع كذا ، فقال : نحن لا نسكن البيوت ؛بل في قلبه سوكونانا .. سوكونا..سوكو .. فضجت ضحكاته وتلاشت ، فظننته جُنّ !!!
د. نايف بن عبدالعزيز الحارثي
ماهذا الخلط د نايف انت تعرض راي المتصل دون ان تبين لنا رايك وفق النظرة الادبية النقدية سوا كانت حديثة او قديمه وقدظهر رايك باهتا خجولا متواري خلف شكوك لا اجد لها مبرر ومطلع القصيدة كونها جاءت نكرة هذا لايعني انها تشير الى المعنى المعجمي القاموسي للكلمة وانما بمفهومها الواسع وبكل تجلياتها وطن بكل ابعادة وهمومه وقضاياه والعيش عيش حياة وعطاء على مبدأ الاستخلاف في الارض اما الشهادة شهادة حب وهواء وغرام هذا ماعناه الشاعر (رب حي عليه صار شهيدًا
في هواه) وانت تعرف معنى الهواء , يومه ماحان, كون الاجال بيد الله ولكن شهيد هوى وحب وهيام في الوطن ذلك الوطن المتعدد بجغرافيته وتاريخة وبكل مايحتويه وطن شاسع وهذا التنكير يقدح لدى القاري فطنة تذاهنية تستدعي معنى المعنى
وهكذا يستمر النص نعم اتفق معك في ضعف الالقاء وهذه فروق فردية واردة بين الناس
سابغ مودتي
شكراً دكتور كان اتصالك على نفسك جميل ، وتجلت فيه الفلسفه الادبيه والنقد اللاذع ولكن كنت اتمنى ان تكون فعلاًهوانت متلقي الاتصال وليس من تعيش صراعاً قاسياً بين نعم ولا ،، نحن لانعلم النيات واعتقد الموضوع اعطي اكبر من حجمه انتهى ..
مما يتضح لي أن كلمة اتصل بي صديق استعارة
والرأي والرأي الآخر جميعها للدكتور نايف ..
وفيه تحليل منطقي واضح وجلي
وما خفي في باقي القصيدة أعظم من تكرار الكلمات ومن ورود كلمة ( نشتهيه !!) ووو …..الخ
إن صدقت هذه الرؤية النقدية لذلك المتصل ، فهذا يعني أنه كلام خطير .. ورمزية مخيفة جداً ،
السؤال هو :- من أختار حيدر لهذه المناسبة ؟ وهل اطلع على القصيدة وحللها قبل ترشيح الشاعر ؟؟؟؟؟
نشكر شخصك الثاني د/نايف .الذي كاد يسهر ليلك ويذهب عنك لذيذ الكرى .ولكن الحمد لله انه اوجز .عموما لن انتقد القصيده رغم جمال ابياتها في بعض الصور الشعريه .رغم انني مع شخص الدكتور الثاني في تحليل بعض الآبيات .مشكلة هذه القصيده هي مشكلة حيدر . كان يظن حيدر انه امام لجنة امير الشعراء والذي كان صوته يناسبهم .ولكن يا حيدر في مثل هذه المناسبه التى حضرها رجل الدولة الاول كان يفترض من منظمي الحفل ان يقولون له امسك مكانك .ثم يراضون خاطره ويقولون له انت في سكنانا